القادم من منطقة عسير أو الذاهب إليها يحس بشيء يشدة للتفكير والمعاينة تلو المعاينة، فالجبال والأودية والشعاب والقرى المتناثرة هنا وهناك توحي ألي الإنسان بأشياء عديدة ولست مغالياً إذا قلت أن تلك الظواهر قد أعانت هذا الإنسان على تثبيت حضارته وتعميق جهوده. ان هذه الجبال الشاهقة والمنحدرات السحيقة لم يخصص الله لها من النوافذ أو المعايير غير واديين كبيرين هما وادي تثليث و وادي بيشة خاصة من الناحية الشرقية والشمالية الشرقية تذكرت هذا وأنا اقطع الاكيال متجهاً إلى الشرق وفى اتجاهي وأنا أتلفت يميناً وشمالاً أتخيل انحدار الموجات البشرية وضجيج اللغات أثناء الهجرات المتقدمة متجهة إلى الشمال، متذكراً قول الفقيه التابعي الزاهد سعيد بن المسيب عندما قال: (عندما خلق الله الأرض اضطربت فضربها بهذا الجبل الأسود) ولا ضير ولا تفكر إذا علمنا ما للجبال من الكرامة والحظوة عند العرب أو مالها من السمو والاستدلال، في أشعارهم وأخبارهم وجبال السر وات لها عند أهل الجنوب أسماء مضافة على ما في المعاجم وتأليف البلدان المعروفة فأحياناً يسمونها (الطور) أحيانا (ساق الغراب) وتارة يسمونها (السود) وأخرى بـ (ذات عرق) كما في الأثر، وأخيراً قد يسمونها (الحجاز) وما دام ان حديثنا هذا وصفاً واعتباراً أو سمة فذلكة لمسافر يروى ويتعجب، فسأروى لكم حادثة يرويها الآباء للأبناء في منطقة الجنوب وهى حادثة (سنة الليلة) تذكرون أنني قلت آنفاً ان وادي تثليث و وادي بيشه هما المنفذان الوحيدان لعسير من ناحية الشرق وان كل الأودية والشعاب والروافد صغيرها وكبيرها تصب في هذين الواديين، ما أطيل عليكم كلكم تذكرون ذلك فسأروى لكم عن سنة الليلة، حدثني أبى وعمى وكبار السن من جماعتي قالوا: كانت قبائل أهل تثليث تقطن في مجرى وادي تثليث وفى اجزاعه وكانوا يمتلكون أنعاما كثيرة وخاصة الإبل والخيول والأغنام وكان الوادي من أعلاه إلى اسفلة مكتظاً بالأشجار المعروفة في الجنوب كالأراك والارطى والعبب والسمر والسلم والسدر والحلفاء والاثل والقتاد وما شابه ذلك من الطلح والسرح وغيره. وكانت الجبال المحيطة مكسوة بأشجارها الخاصة كالشوحط و العتم وشجر يسمونه في المنطقة (القفل) ومجرى الوادي يبدو بينها مثل الخيط الرفيع ولكون المطر لا يخلف مواسمه كان الماء لا يبعد عن مستوى التربة غير ذراع أو اقل من ذراع حتى الذين يعزبون عند ابلهم عندما يريدون ان يسقونها لا يكلفون أنفسهم عناء اكثر من شق الأرض بأي شئ يجدونه فترد الإبل وتشرب برؤوسها مباشرة من هذه الحفر أو الشقوق التي يشقها الرعاة لهذا الغرض، وفى إحدى الأيام حدث لاهل المنطقة ما لم يحسب له حساب، لقد كان ذلك في اوآخر الصيف أو ما يسمونه الخريف، حيث انهمرت الأمطار المفاجئة على غير المعهود في أعالي السروات وفى اواسطها وظلت تتلاحق بشدة مذهلة دون ان يصحبها ما ينذر الناس بالرعود أو البروق. لهذا اندفعت الشعاب والأودية اندفاعاً جارفاً وصبت بدورها في الوادي الكبير حيث ابتلع القرى تلو القرى وظل في مسيرة لا يلوى على شئ إلا أخذه في طريقة ولما توسط وادي تثليث و وادي الثفن الرافد الأكبر له اخذ الإبل والخيول واخذ الناس وكل ما يستر الحياة هناك. ولما وصل إلى نهاية الوادي كان هناك رمل يضرب المثل ببنائها وامتداد ما تفصله بين وادي تثليث و وادي الدواسر ومثيليه من الغرب (وادي بيشة وما يرفده من الاودية) لكن هذا السيل المرعب شقق هذه الرمال التي تسمى رمال (المختمية)فأنذر بشدة هديرة سكان وادي الدواسر ففزعوا إلى قاضيهم وهو الشيخ / ابن بشر رحمه الله فقالوا : نعم لقد شق الرمال المنيعة رمال المختمية وهو الآن في طريق إلينا، قال لهم الشيخ : أين الخيال الشجاع، والفرس السريعة، قالوا فلان، قال: انطح الماء وتذوقه فان كان مالحاً فهو البحر كما رويتم وانا لله وانا إليه راجعون، وان كان حالياً وهو ما اعتقده فهو وادي تثليث لأن وادى العقيق منحدر هذا الوادي وفى العبر من المراجع ما يؤيد ذلك، ركض هذا الفارس فلما وصل أول السيل نزل عن جواده وغمس يديه في الماء ولما شرب منه وجده حالياً فلما عاد قال لقد صدق الشيخ ولكن الحذر الحذر فاحترز الكثير وهرب الأكثر وكان ذلك سنة 1333هـ وكم يتحدث المعمرون الذين روى عنهم كبار السن يقولون ان الجثث من المخلوقات والمخلفات العينية وجذوع الأشجار كانت من الكثرة بما لا تحصى وذلك بعد ان غارت المياه وظهر لهم أديم الأرض، أما ما رجحه قاضى الوادي وروى سكان الدواسر عن مثلية في السابق فهو على الأرجح السيول التي أخذت " بطوناً من آل عبد الرب الضياغم " في أوائل القرن العاشر على الأرجح والتي أجلت البقية ألي شمال الجزيرة العربية منطقة حائل من المملكة العربية السعودية التي داهمتهم السيول مثل الليلية أغرقتهم وفر من فر منهم ** يقول الشاعر:
وسنة الليلة 1333هـ فكانت المملكة آنذاك في طور التوحيد والهجر الذي أمر الملك عبد العزيز رحمة الله بتأسيسها في طور النشأة وتنامي توحيد البلاد وليس في تثليث آنذاك إلا هجرتان فقط وهى هجرة المصبح وهجرة بن عبود ولكن لم تأت سنة الرحمة أو سنة الوافدة الاسبينولية التي أعقبت الحرب العالمية، وكانت الهجر متساوية في العدد والمرشدين وهى سنة 1337هـ ومن ثم تكامل هذا الكيان العملاق ** رحم الله عبد العزيز آل سعود لقد كان بعيد النظر بعيد الهمة ** أما ما فعلته سيول الليلة في المنطقة الجنوبية فستظل عالقة بأذهان الأجيال وستكون سنتها تذكرة وعبرة يرويها من يرويها.
,وادي تثليث اثناء السيل
عودة
|